فصل: تفسير الآيات رقم (55- 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 171‏]‏

‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏فلما عتوا‏}‏ أَيْ‏:‏ طغوا واستكبروا ‏{‏عمَّا نهوا عنه‏}‏ أَيْ‏:‏ عن ترك ما نُهوا عنه من صيد الحيتان يوم السَّبت ‏{‏قلنا لهم‏}‏ الآية مُفسَّرة في سورة البقرة‏.‏

‏{‏وإذ تأذَّن ربك‏}‏ قالَ وأعلم ربُّك ‏{‏ليبعثنَّ‏}‏ ليرسلنَّ ‏{‏عليهم‏}‏ على اليهود ‏{‏مَنْ يسومهم‏}‏ أَيْ‏:‏ يذيقهم ‏{‏سوء العذاب‏}‏ إلى يوم القيامة‏.‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم وأُمَّته يقاتلونهم أو يعطون الجزية ‏{‏إنَّ ربك لسريع العقاب‏}‏ لمن استحقَّ تعجيله‏.‏

‏{‏وقطعناهم في الأرض أمماً‏}‏ فرَّقناهم في البلاد، فلم يجتمع لهم كلمة ‏{‏منهم الصالحون‏}‏ وهم الذين آمنوا ‏{‏ومنهم دون ذلك‏}‏ الذين كفروا ‏{‏وبلوناهم‏}‏ عاملناهم معاملة المختبر ‏{‏بالحسنات‏}‏ بالخِصب والعافية ‏{‏والسيئات‏}‏ الجدب والشَّدائد ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ كي يتوبوا‏.‏

‏{‏فَخَلَفَ من بعدهم خلف‏}‏ من بعد هؤلاء الذين قطَّعناهم خلفٌ من اليهود‏.‏ يعني‏:‏ أولادهم ‏{‏ورثوا الكتاب‏}‏ أخذوه عن آبائهم ‏{‏يأخذون عرض هذا الأدنى‏}‏ يأخذون ما أشرف لهم من الدُّنيا حلالاً أو حراماً ‏{‏ويقولون سيغفر لنا‏}‏ ويتمنَّون على الله المغفرة ‏{‏وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه‏}‏ وإن أصابوا عرضاً، أيْ‏:‏ متاعاً من الدُّنيا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه‏.‏ وهذا إخبارٌ عن حرصهم على الدُّنيا ‏{‏ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلاَّ الحق‏}‏ وأكَّد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلاَّ الحق فقالوا الباطل، وهو قولهم‏:‏ ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ وليس في التَّوراة ميعاد المغفرة مع الإِصرار ‏{‏ودرسوا ما فيه‏}‏ أَيْ‏:‏ فهم ذاكرون لما أخذ عليهم الميثاق؛ لأنَّهم قرؤوه‏.‏

‏{‏والذين يمسكون بالكتاب‏}‏ يؤمنون به ويحكمون بما فيه‏.‏ يعني‏:‏ مؤمني أهل الكتاب ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ التي شرعها محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏ منهم‏.‏

‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم‏}‏ رفعناه باقتلاع له من أصله‏.‏ يعني‏:‏ ما ذكرنا عند قوله‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقكم الطور‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏وظنوا‏}‏ وأيقنوا ‏{‏أنَّه واقع بهم‏}‏ إن خالفوا، وباقي الآية مضى فيما سبق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 175‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم‏}‏ أخرج الله تعالى ذريَّة آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، وجميعُ ذلك أخرجه من صلب آدم مثل الذَّرِّ، وأخذ عليهم الميثاق أنَّه خالقهم، وأنَّهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك بعد أن ركَّب فيهم عقولاً، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم‏}‏ أي‏:‏ قال‏:‏ ألستُ بربكم ‏{‏قالوا بلى‏}‏ فأقرُّوا له بالربوبيَّة، فقالت الملائكة عند ذلك ‏{‏شهدنا‏}‏ أَيْ‏:‏ على إقراركم ‏{‏أن‏}‏ لا ‏{‏تقولوا‏}‏ لئلا ‏[‏تقولوا، أي‏:‏ لئلا‏]‏ يقول الكفار ‏{‏يوم القيامة إنا كنا عن هذا‏}‏ الميثاق ‏{‏غافلين‏}‏ لم نحفظه ولم نذكره، ويذكرون الميثاق ذلك اليوم فلا يمكنهم الإنكار مع شهادة الملائكة، وهذه الآية تذكيرٌ لجميع المكلَّفين ذلك الميثاق؛ لأنَّها وردت على لسان صاحب المعجزة، فقامت في النُّفوس مقام ما هو على ذكرٍ منها‏.‏

‏{‏أو تقولوا‏}‏ أَيُّها الذُّريَّة محتجِّين يوم القيامة‏:‏ ‏{‏إنما أشرك آباؤنا من قبل‏}‏ أَيْ‏:‏ قبلنا، ونقضوا العهد ‏{‏وكنا ذرية من بعدهم‏}‏ صغاراً فاقتدينا بهم ‏{‏أفتهلكنا بما فعل المبطلون‏}‏ أَفَتُعَذَّبنا بما فعل المشركون المكذِّبون بالتَّوحيد، وإَّنما اقتدينا بهم، وكنا في غفلةٍ عن الميثاق، وهذه الآية قطعٌ لمعذرتهم، فلا يمكنهم الاحتجاج بكون الآباء على الشِّرك بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتَّوحيد على كلِّ واحدٍ من الذُّريَّة‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وكما بيَّنا في أمر الميثاق ‏{‏نفصل الآيات‏}‏ نبيِّنها ليتدبَّرها العباد ‏{‏ولعلهم يرجعون‏}‏ ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر‏.‏

‏{‏واتل عليهم‏}‏ واقرأ واقصص يا محمَّد على قومك ‏{‏نبأ‏}‏ خبر ‏{‏الذي آتيناه آياتنا‏}‏ علَّمناه حجج التَّوحيد ‏{‏فانسلخ‏}‏ خرج ‏{‏منها فأتبعه الشيطان‏}‏ أدركه ‏{‏فكأن من الغاوين‏}‏ الضَّالين‏.‏ يعني‏:‏ بلعم من باعوراء‏.‏ أعان أعداء الله على أوليائه بدعائه، فَنُزِعَ عنه الإِيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 177‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏ولو شئنا لرفعناه بها‏}‏ بالعمل بها‏.‏ يعني‏:‏ وفَّقناه للعمل بالآيات، وكنَّا نرفع بذلك منزلته ‏{‏ولكنه أخلد إلى الأرض‏}‏ مال إلى الدُّنيا وسكن إليها، وذلك أنَّ قومه أهدوا له رسوةً ليدعوَ على قوم موسى، فأخذها ‏{‏واتبع هواه‏}‏ انقاذ لما دعاه إليه الهوى ‏{‏فمثله كمثل الكلب‏}‏ أراد أنَّ هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتدِ، فالحالتان عنده سواءٌ، كحالتي الكلب اللاهث، فإنَّه إنْ حُمل عليه بالطَّرد كان لاهثاً، وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً كهذا الكافر في الحالتين ضالٌّ، وذلك أنَّه زُجر في المنام عن الدُّعاء على موسى فلم ينزجر، وتُرك عن الزَّجر فلم يهتد، فضرب الله له أخسَّ شيءٍ في أخسّ أحواله، وهو حال اللَّهث مثلاً، وهو إدلاع اللِّسان من الإِعياء والعطش، والكلب يفعل ذلك في حال الكلال وحال الرَّاحة، ثمَّ عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذِّبين بآيات الله فقال‏:‏ ‏{‏ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة‏.‏ كانوا يتمنَّون هادياً يهديهم، فلما جاءهم مَنْ لا يشكُّون في صدقه كذَّبوه، فلم يهتدوا لمَّا تُركوا، ولم يهتدوا أيضاً لمَّا دُعوا بالرَّسول، فكانوا ضالِّين عن الرُّشد في الحالتين ‏{‏فاقصص القصص‏}‏ يعني‏:‏ قصص الذين كذَّبوا بآياتنا ‏{‏لعلهم يتفكرون‏}‏ فيتَّعظون، ثمَّ ذمَّ مَثلَهم، فقال‏:‏

‏{‏ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أَيْ‏:‏ بئس مثل القوم كذَّبوا بآياتنا ‏{‏وأنفسهم كانوا يظلمون‏}‏ بذلك التَّكذيب‏.‏ يعني‏:‏ إنَّما يخسرون حظَّهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 183‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد ذَرَأْنا‏}‏ ‏[‏خلقنا‏]‏ ‏{‏لجهنم كثيراً من الجن والإِنس‏}‏ وهم الذين حقَّت عليهم الشَّقاوة ‏{‏لهم قلوب لا يفقهون بها‏}‏ لا يعقلون بها الخير والهدى ‏{‏ولهم أعين لا يبصرون بها‏}‏ سبل الهدى ‏{‏ولهم آذان لا يسمعون بها‏}‏ مواعظ القرآن ‏{‏أولئك كالأنعام‏}‏ يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة ‏{‏بل هم أضلُّ‏}‏ لأنَّ الأنعام مطيعةٌ لله، والكافر غير مطيع ‏{‏أولئك هم الغافلون‏}‏ عمَّا في الآخرة من العذاب‏.‏

‏{‏ولله الأسماء الحسنى‏}‏ يعني‏:‏ التِّسعة والتِّسعين ‏{‏فادعوه بها‏}‏ كقولك‏:‏ يا اللَّهُ، يا قديرُ، يا عليمُ ‏{‏وذروا الذين يلحدون في أسمائه‏}‏ يميلون عن القصد، وهم المشركون عدلوا بأسماء الله عمّا هي عليه، فسمُّوا بها أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا، واشتقوا اللاَّت من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنَّان ‏{‏سيجزون ما كانوا يعملون‏}‏ جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة‏.‏

‏{‏وممن خلقنا أمة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يعني‏:‏ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال في قوم موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏ومن قوم موسى أمةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ محمدٍ والقرآن‏.‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏سنستدرجهم‏}‏ سنمكر بهم ‏{‏من حيث لا يعلمون‏}‏ كلما جدَّدوا لنا معصية جدَّّدنا لهم نعمةً‏.‏

‏{‏وأملي لهم‏}‏ أُطيل لهم مدَّة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ‏{‏إنَّ كيدي متين‏}‏ مكري شديد‏.‏ نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلةٍ واحدةٍ بعد أن أمهلهم طويلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 187‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَم يتفكروا‏}‏ فيعلموا ‏{‏ما بصاحبهم‏}‏ محمَّدٍ ‏{‏من جنة‏}‏ من جنونٍ‏.‏

‏{‏أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض‏}‏ ليستدلُّوا بها على توحيد الله، وفسَّرنا ملكوت السَّموات والأرضِ في سورة الأنعام ‏{‏وما خلق الله من شيء‏}‏ وفيما خلق الله من الأشياء كلها ‏{‏وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم‏}‏ وفي أنْ لعلَّ آجالهم قريبة، فيهلكوا على الكفر، ويصيروا إلى النَّار ‏{‏فبأيِّ حديث بعده يؤمنون‏}‏ فبأيِّ قرآنٍ غير ما جاء به محمَّد يُصدِّقون‏؟‏ يعني‏:‏ إنَّه خاتم الرُّسل، ولا وحي بعده، ثمَّ ذكر علَّة إعراضهم عن الإِيمان، فقال‏:‏

‏{‏ومَنْ يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏

‏{‏يسألونك عن الساعة‏}‏ أَي‏:‏ السَّاعة التي يموت فيها الخلق‏.‏ يعني‏:‏ القيامة نزلت في قريش قالت لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسرَّ إلينا متى السَّاعة ‏{‏إيَّان مرساها‏}‏ متى وقوها وثبوتها‏؟‏ ‏{‏قل إنما علمها‏}‏ العلم بوقتها ووقوعها ‏{‏عند ربي لا يجليها لوقتها إلاَّ هو‏}‏ لا يظهرها في وقتها إلاَّ هو ‏{‏ثقلت في السموات والأرض‏}‏ ثقل وقوعها وكَبًُر على أهل السَّموات والأرض لما فيها من الأهوال ‏{‏لا تأتيكم إلاَّ بغتة‏}‏ فجأة ‏{‏يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها‏}‏ عالمٌ بها مسؤول عنها ‏{‏قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أنَّ علمها عند الله حين سألوا محمداً عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 189‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

‏{‏قل لا أملك لنفسي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ إنَّ أهل مكة قالوا‏:‏ يا محمَّد، ألا يخبرك ربُّك بالسِّعر الرَّخيص، قبل أن يغلو، فنشتري من الرَّخيص لنربح عليه‏؟‏ وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل عنها‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لا أملك لنفسي نفعاً‏}‏ أي‏:‏ اجتلاب نفع بأن أربح، ‏{‏ولا ضرَّاً‏}‏ دفع ضرٍّ بأن أرتحل من الأرض التي تريد أن تجدب ‏{‏إلاَّ ما شاء الله‏}‏ أن أملكه بتمليكه ‏{‏ولو كنت أعلم الغيب‏}‏ ما يكون قبل أن يكون ‏{‏لاستكثرت من الخير‏}‏ لادَّخرت في زمانِ الخِصْبِ لزمن الجدب ‏{‏وما مسني السوء‏}‏ وما أصابني الضرُّ والفقر ‏{‏إن أنا إلاَّ نذير‏}‏ لمَنْ يصدِّق ما جئت به ‏{‏وبشير‏}‏ لمن اتَّبعني وآمن بي‏.‏

‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ يعني‏:‏ آدم ‏{‏وجعل منها زوجها‏}‏ حوَّاء خلقها من ضلعه ‏{‏ليسكن إليها‏}‏ ليأنس بها، فيأوي إليها ‏{‏فلما تغشاها‏}‏ جامعها ‏{‏حملت حملاً خفيفاً‏}‏ يعني‏:‏ النُّطفة والمنيِّ ‏{‏فمرَّت به‏}‏ استمرَّت بذلك الحمل الخفيف، وقامت وقعدت، ولم يُثْقِلها ‏{‏فلما أثقلت‏}‏ صار إلى حال الثِّقل ودنت ولادتها، ‏{‏دعوا الله ربهما‏}‏ آدم وحواء ‏{‏لئن آتيتنا صالحاً‏}‏ بشراً سويَّاً مثلنا ‏{‏لنكوننَّ من الشاكرين‏}‏ وذلك أنَّ إبليس أتاها في غير صورته التي عرفته، وقال لها‏:‏ ما الذي في بطنك‏؟‏ قالت‏:‏ ما أدري‏.‏ قال‏:‏ إنِّي أخاف أن يكون بهيمةً، أو كلباً أو خنزيراً، وذكرت ذلك لآدم، فلم يزالا في همٍّ من ذلك، ثمَّ أتاها وقال‏:‏ إن سألتُ الله أن يجعله خلقاً سويَّاً مثلك أَتُسمِّينه عبد الحارث‏؟‏ وكان إبليس في الملائكة الحارث، ولم يزل بها حتى غرَّها، فلمَّا ولدت ولداً سويَّ الخلق سمَّته عبد الحارث، فرضي آدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 192‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏‏}‏

‏{‏فلما آتاهما صالحاً‏}‏ ولداً سويّاً ‏{‏جعلا له‏}‏ لله ‏{‏شركاء‏}‏ يعني‏:‏ إبليس، فأوقع الواحد موقع الجميع ‏{‏فيما آتاهما‏}‏ من الولد إذ سمَّياه عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبداً إلاَّ لله، ولم تعرف حوَّاء أنَّه إبليس، ولم يكن هذا شركاً بالله، لأنَّهما لم يذهبا إلى أنَّ الحارث ربَّهما، لكنهما قصدا إلى أنَّه كان سبب نحاته، وتمَّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏آتاهما‏}‏، ثمَّ ذكر كفَّار مكة، فقال‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عمَّا يشركون‏}‏‏.‏

‏{‏أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون‏}‏ يريد‏:‏ أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئاً وهم مخلوقون‏!‏ عنى الأصنام‏.‏

‏{‏ولا يستطيعون لهم نصراً‏}‏ لا تنصر مَنْ أطاعها ‏{‏ولا أنفسهم ينصرون‏}‏ ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه مَنْ أرادهم بكسرٍ أو نحوه، ثمَّ خاطب المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏193- 196‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

‏{‏وإن تدعوهم‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏إلى الهدى لا يتبعوكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏إنَّ الذين تدعون من دون الله‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏عباد‏}‏ مملوكون مخلوقون ‏{‏أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم‏}‏ فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم‏!‏‏؟‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أنَّ لكم عند الأصنام منفعةً، أو ثواباً، أو شفاعةً، ثمَّ بيَّن فضل الآدميِّ عليهم فقال‏:‏

‏{‏ألهم أرجل يمشون بها‏}‏ مشيَ بني آدم ‏{‏أَمْ لهم أيدٍ يبطشون بها‏}‏ يتناولون بها مثل بطش بني آدم ‏{‏أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم‏}‏ الذين تعبدون من دون الله ‏{‏ثمَّ كيدون‏}‏ أنتم وشركاؤكم ‏{‏فلا تنظرون‏}‏ لا تُمهلون واعجلوا في كيدي‏.‏

‏{‏إنَّ وليي الله‏}‏ الذي يتولَّى حفظي ونصري ‏{‏الذي نزل الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏وهو يتولى الصالحين‏}‏ الذين لا يعدلون بالله شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏198- 202‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏‏}‏

‏{‏وتراهم ينظرون إليك‏}‏ تحسبهم يرونك ‏{‏وهم لا يبصرون‏}‏ وذلك لأنَّ لها أعيناً مصنوعةً مركَّبةً بالجواهر، حتى يحسب الإِنسان أنَّها تنظر إليه‏.‏

‏{‏خذ العفو‏}‏ اقبل الميسور من أخلاق النَّاس، ولا تستقصِ عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يعفو عمَّنْ ظلمه، ويصل مَنْ قطعه ‏{‏وأمر بالعرف‏}‏ المعروف الذي يعرف حسنه كلُّ أحدٍ‏.‏ ‏{‏وأعرض عن الجاهلين‏}‏ لا تقابل السَّفيه بسفهه، فلمَّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف يا ربِّ والغضب‏؟‏ فنزل‏:‏

‏{‏وإمَّا ينزغنَّك من الشيطان نزغ‏}‏ يعرض لك من الشيطان عارضٌ، ونالك منه أدنى وسوسة ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ اطلب النَّجاة من تلك البليَّة بالله ‏{‏إنَّه سميع‏}‏ لدعائك ‏{‏عليم‏}‏ عالمٌ بما عرض لك‏.‏

‏{‏إنَّ الذين اتقوا‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين ‏{‏إذا مسَّهم‏}‏ أصابهم ‏{‏طيف من الشيطان‏}‏ عارضٌ من وسوسته ‏{‏تذكَّروا‏}‏ استعاذوا بالله ‏{‏فإذا هم مبصرون‏}‏ مواقع خَطَئِهِمْ، فينزعون من مخالفة الله‏.‏

‏{‏وإخوانهم‏}‏ يعني‏:‏ الكفَّار، وهم إخوان الشَّياطين ‏{‏يمدونهم‏}‏ أَي‏:‏ الشَّياطين يطوِّلون لهم الإِغواء والضَّلالة ‏{‏ثم لا يقصرون‏}‏ عن الضلالة ولا يبصرونها، كما أقصر المُتَّقي عنها حين أبصرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏203- 206‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا لم تأتهم‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏بآية‏}‏ سألوكها ‏{‏قالوا لولا اجتبيتها‏}‏ اختلقتها وأنشأتها من قبل نفسك ‏{‏قل إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي‏}‏ أَيْ‏:‏ لستُ آتي بالآيات من قبل نفسي‏.‏ ‏{‏هذا‏}‏ أَيْ‏:‏ هذا القرآن الذي أتيتُ به ‏{‏بصائر من ربكم‏}‏ حججٌ ودلائلُ تعود إلى الحقِّ‏.‏

‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‏}‏ الآيةُ نزلت في تحريم الكلام في الصَّلاة، وكانوا يتكلَّمون في الصَّلاة في بدء الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإِمام‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في السُّكوت للخطبة، وقوله‏:‏ ‏{‏وأنصتوا‏}‏ أَيْ‏:‏ عمَّا يحرم من الكلام في الصَّلاة، أو عن رفع الصَّوت خلف الإِمام، أو اسكتوا لاستماع الخطبة‏.‏

‏{‏واذكر ربك في نفسك‏}‏ يعني‏:‏ القراءة في الصَّلاة ‏{‏تضرُّعاً وخيفة‏}‏ استكانةًَ لي وخوفاً من عذابي ‏{‏ودون الجهر‏}‏ دون الرَّفع ‏{‏من القول بالغدو والآصال‏}‏ بالبُكُر والعشيَّات‏.‏ أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإِسرار، ودون الجهر فيما يرفع به الصَّوت ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ الذين لا يقرؤون في صلاتهم‏.‏

‏{‏إنَّ الذين عند ربك‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، وهم بالقرب من رحمة الله ‏{‏لا يستكبرون عن عبادته‏}‏ أَيْ‏:‏ هم مع منزلتهم ودرجتهم يعبدون الله‏.‏ كأنَّه قيل‏:‏ مَنْ هو أكبر منك أيُّها الإِنسان لا يستكبر عن عبادة الله ‏{‏ويسبحونه‏}‏ يُنزِّهونه عن السُّوء ‏{‏وله يسجدون‏}‏‏.‏

سورة الأنفال

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ الغنائم، لمَنْ هي‏؟‏ نزلت حين اختلفوا في غنائم بدر، فقال الشُّبان‏:‏ هي لنا؛ لأنَّا باشرنا الحرب، وقالت الأشياخ‏:‏ كنَّا ردءاً لكم؛ لأنَّا وقفنا في المصافِّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو انهزمتهم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها، فقسمها بينهم على السَّواء ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ بطاعته واجتناب معاصية ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ حقيقة وصلكم، أَيْ‏:‏ لا تَخَالفوا ‏{‏وأطيعوا الله ورسوله‏}‏ سلِّموا لهما في الأنفال؛ فإنَّهما يحكمان فيها ما أرادا ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ ثمَّ وصف المؤمنين فقال‏:‏

‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم‏}‏ أَيْ‏:‏ المؤمن الذي إذا خُوِّف بالله فرق قلبه، وانقاد لأمره ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً‏}‏ تصديقاً ويقيناً ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ بالله يثقون لا يرجون غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ صدقاً من غير شكٍّ، لا كإيمان المنافقين ‏{‏لهم درجات عند ربهم‏}‏ يعني‏:‏ درجات الجنَّة ‏{‏ومغفرة ورزق كريم‏}‏ وهو رزق الجنَّة‏.‏

‏{‏كما أخرجك‏}‏ أيْ‏:‏ امض لأمر الله في الغنائم وإن كره بعضهم ذلك؛ لأنَّ الشُّبان أرادوا أن يستبدُّوا به، فقال الله تعالى‏:‏ أعط مَنْ شئت وإن كرهوا، كما مضيت لأمر الله في الخروج وهم له كارهون‏.‏ ومعنى ‏{‏كما أخرجك ربُّك من بيتك‏}‏ أمرك بالخروج من المدينة لعير قريش ‏{‏بالحقِّ‏}‏ بالوحي الذي أتاك به جبريل ‏{‏وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون‏}‏ الخروج معك كراهة الطَّبع لاحتمال المشقَّة؛ لأنَّهم علموا أنَّهم لا يظفرون بالعير دون القتال‏.‏

‏{‏يجادلونك في الحق بعد ما تبيَّن‏}‏ في القتال بعد ما أُمرت به، وذلك أنَّهم خرجوا للعير، ولم يأخذوا أُهبة الحرب، فلمَّا أُمروا بحرب النَّفير شقَّ عليهم ذلك، فطلبوا الرُّخصة في ترك ذلك، فهو جدالهم ‏{‏كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون‏}‏ أَيْ‏:‏ لشدَّة كراهيتهم للقاء القوم كأنَّهم يُساقون إلى الموت عياناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 15‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ‏(‏11‏)‏ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ‏(‏12‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏13‏)‏ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وإذْ يعدكم الله إحدى الطائفتين‏}‏ العير أو النَّفير ‏{‏أنَّها لكم وتودون أنَّ غير ذات الشوكة تكون لكم‏}‏ أَيْ‏:‏ العير التي لا سلاح فيها تكون لكم ‏{‏ويريد الله أن يحق الحق‏}‏ يُظهره ويُعليَه ‏{‏بكلماته‏}‏ بِعِدَاتِه التي سبقت بظهور الإِسلام ‏{‏ويقطع دابر الكافرين‏}‏ آخر مَنْ بقي منهم‏.‏ يعني‏:‏ إنَّه إنَّما أمركم بحرب قريشٍ لهذا‏.‏

‏{‏ليحقَّ الحق‏}‏ أَيْ‏:‏ ويقطع دابر الكافرين ليُظهر الحقَّ ويُعليَه ‏{‏ويبطل الباطل‏}‏ ويُهلك الكفر ويُفنيه ‏{‏ولو كره المجرمون‏}‏ ذلك‏.‏

‏{‏إذ تستغيثون ربكم‏}‏ تطلبون منه المعونة بالنَّصر على العدوِّ لقلَّتكم ‏{‏فاستجاب لكم أني ممدُّكم بألفٍ من الملائكة مردفين‏}‏ متتابعين، جاؤوا بعد المسلمين، ومَنْ فتح الدَّال أراد‏:‏ بألفٍ أردف الله المسلمين بهم‏.‏

‏{‏وما جعله الله‏}‏ أَيْ‏:‏ الإِرداف ‏{‏إلاَّ بشرى‏}‏ الآية ماضية في سورة آل عمران‏.‏

‏{‏إذ يغشيكم النعاس أمنة منه‏}‏ وذلك أنَّ الله تعالى أمَّنهم أمناً غشيهم النُّعاس معه، وهذا كما كان يوم أُحدٍ، وقد ذكرنا ذلك في سورة آل عمران‏.‏ ‏{‏وينُزِّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به‏}‏ وذلك أنَّهم لمَّا بايتوا المشركين ببدرٍ أصابت جماعة منهم جنابات، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء، فوسوس إليهم الشَّيطان، وقال لهم‏:‏ كيف ترجون الظَّفر وقد غلبوكم على الماء‏؟‏ وأنتم تُصلُّون مُجنِبين ومُحدِثين، وتزعمون أنَّكم أولياء الله وفيكم نبيُّه‏؟‏ فأنزل الله تعالى مطراً سال منه الوادي حتى اغتسلوا، وزالت الوسوسة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليطهركم به‏}‏ أَيْ‏:‏ من الأحداث والجنابات ‏{‏ويذهب عنكم رجز الشيطان‏}‏ وسوسته التي تكسب عذاب الله ‏{‏وليربط‏}‏ به ‏{‏على قلوبكم‏}‏ باليقين والنَّصر ‏{‏ويثبت به الأقدام‏}‏ وذلك أنَّهم كانوا قد نزلوا على كثيبٍ تغوص فيه أرجلهم، فلبَّده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام‏.‏

‏{‏إذ يوحي ربك إلى الملائكة‏}‏ الذين أمدَّ بهم المسلمين ‏{‏إني معكم‏}‏ بالعون والنُّصرة ‏{‏فثبتوا الذين آمنوا‏}‏ بالتَّبشير بالنَّصر، وكان المَلَك يسير أمام الصَّف على صورة رجلٍ ويقول‏:‏ أبشروا؛ فإنَّ الله ناصركم ‏{‏سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ الخوف من أوليائي ‏{‏فاضربوا فوق الأعناق‏}‏ أَيْ‏:‏ الرُّؤوس ‏{‏واضربوا منهم كلَّ بنان‏}‏ أَيْ‏:‏ الأطراف من اليدين والرِّجلين‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الضَّرب ‏{‏بأنهم شاقوا الله ورسوله‏}‏ باينوهما وخالفوهما‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ القتل والضَّرب ببدرٍ ‏{‏فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النار‏}‏ بعدما نزل بهم من ضرب الأعناق‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً‏}‏ مُجتمعين مُتدانين إليكم للقتال ‏{‏فلا تولوهم الأدبار‏}‏ لا تجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 23‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏16‏)‏ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ‏(‏18‏)‏ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏19‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏21‏)‏ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ومن يُوَلَّهِمْ يومئذٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ يوم لقاء الكفَّار ‏{‏دبره إلاَّ متحرِّفاً لقتال‏}‏ مُنعطفاً مُستَطرداً يطلب العودة ‏{‏أو متحيزاً‏}‏ مُنضمَّاً ‏{‏إلى فئة‏}‏ لجماعةٍ يريدون العود إلى القتال ‏{‏فقد باء بغضب من الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأكثر المفسرين على أنَّ هذا الوعيد، إنَّما كان لمَنْ فرَّ يوم بدرٍ، وكان هذا خاصَّاً للمنهزم يوم بدرٍ‏.‏

‏{‏فلم تقتلوهم‏}‏ يعني‏:‏ يوم بدرٍ ‏{‏ولكنَّ الله قتلهم‏}‏ بتسبيبه ذلك، من المعونة عليهم وتشجيع القلب ‏{‏وما رميت إذ رميت‏}‏ وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام قال للنبيِّ عليه السَّلام يوم بدرٍ‏:‏ خذ قبضةً من تراب فارمهم بها، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من حصى الوادي، فرمى بها في وجوه القوم، فلم يبقَ مشركٌ إلاَّ دخل عينيه منها شيءٌ، وكان ذلك سبب هزيمتهم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكنَّ الله رمى‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّ كفَّاً من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بَشرٍ، ولكنَّ الله تعالى تولَّى إيصال ذلك إلى أبصارهم ‏{‏وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً‏}‏ وينعم عليهم نعمةً عظيمةً بالنَّصر والغنيمة فعل ذلك‏.‏ ‏{‏إنَّ الله سميع‏}‏ لدعائهم ‏{‏عليم‏}‏ بنيَّاتهم‏.‏

‏{‏ذلكم وأنَّ الله موهن كيد الكافرين‏}‏ يُهنِّئ رسوله بإيهانه كيد عدوِّه، حتى قُتلت جبابرتهم، وأُسِر أشرافهم‏.‏

‏{‏إن تستفتحوا‏}‏ هذا خطابٌ للمشركين، وذلك أنَّ أبا جهلٍ قال يوم بدرٍ‏:‏ اللَّهم انصر أفضل الدِّينَيْن، وأهدى الفئتين، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تستفتحوا‏}‏ تستنصروا لأَهْدى الفئتين ‏{‏فقد جاءكم الفتح‏}‏ النَّصر ‏{‏وإن تنتهوا‏}‏ عن الشِّرك بالله ‏{‏فهو خير لكم وإن تعودوا‏}‏ لقتال محمَّدٍ ‏{‏نعد‏}‏ عليكم بالقتل والأسر ‏{‏ولن تغني عنكم‏}‏ تدفع عنكم ‏{‏فئتكم‏}‏ جماعتكم ‏{‏شئياً ولو كثرت‏}‏ في العدد ‏{‏وأنَّ الله مع المؤمنين‏}‏ فالنَّصر لهم‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه‏}‏ لا تُعرضوا عنه بمخالفة أمره ‏{‏وأنتم تسمعون‏}‏ ما نزل من القرآن‏.‏

‏{‏ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا‏}‏ سماع قابلٍ، وليسوا كذلك، يعني‏:‏ المنافقين، وقيل‏:‏ أراد المشركين؛ لأنَّهم سمعوا ولم يتفكَّروا فيما سمعوا، فكانوا بمنزلة مَنْ لم يسمع‏.‏

‏{‏إنَّ شرَّ الدواب عند الله الصمُّ البكم الذين لا يعقلون‏}‏ يريد نفراً من المشركين كانوا صمَّاً عن الحقِّ، فلا يسمعونه، بُكماً عن التَّكلُّم به‏.‏ بيَّن الله تعالى أنَّ هؤلاء شرُّ ما دبَّ على الأرض من الحيوان‏.‏

‏{‏ولو علم الله فيهم خيراً‏}‏ لو علم أنَّهم يصلحون بما يُورده عليهم من حججه وآياته ‏{‏لأسمعهم‏}‏ إيَّاها سماع تفهمٍ ‏{‏ولو أسمعهم‏}‏ بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك و‏{‏لتولوا وهم معرضون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏25‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول‏}‏ أجيبوا لهما بالطَّاعة ‏{‏إذا دعاكم لما يحييكم‏}‏ يعني‏:‏ الجهاد؛ لأنَّ به يحيا أمرهم ويقوى، ولأنَّه سبب الشَّهادة، والشُّهداء أحياءٌ عند ربهم، ولأنَّه سببٌ للحياة الدَّائمة في الجنَّة ‏{‏واعلموا أنَّ الله يحول بين المرءِ وقلبه‏}‏ يحول بين الإِنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن إلاَّ بإذنه، ولا أن يكفر، فالقلوب بيد الله تعالى يُقلِّبها كيف يشاء ‏{‏وأنَّه إليه تحشرون‏}‏ للجزاء على الأعمال‏.‏

‏{‏واتقوا فتنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أمر الله تعالى المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمَّهم الله بالعذاب، والفتنة ها هنا‏:‏ إقرار المنكر، وترك التَّغيير له، وقوله‏:‏ ‏{‏لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة‏}‏ أَيْ‏:‏ تصيب الظَّالم والمظلوم، ولا تكون للظَّلمة وحدهم خاصَّة، ولكنَّها عامَّة، والتَّقدير‏:‏ واتَّقوا فتنةً، إن لا تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصَّة، أَيْ‏:‏ لا تقع بالظَّالمين دون غيرهم، ولكنها تقع بالصَّالحين والطَّالحين ‏{‏واعلموا أنَّ الله شديد العقاب‏}‏ حثٌّ على لزوم الاستقامة خوفاً من الفتنة، ومن عقاب الله بالمعصية فيها‏.‏

‏{‏واذكروا‏}‏ يعني‏:‏ المهاجرين ‏{‏إذ أنتم قليل‏}‏ يعني‏:‏ حين كانوا بمكَّة في عنفوان الإِسلام قبل أن يُكملوا أربعين ‏{‏مستضعفون في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ أرض مكَّة ‏{‏تخافون أن يتخطفكم الناس‏}‏ المشركون من العرب لو خرجتم منها ‏{‏فآواكم‏}‏ جعل لكم مأوىً ترجعون إليه، وضمَّكم إلى الأنصار ‏{‏وأيَّدكم بنصره‏}‏ يوم بدرٍ بالملائكة ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ يعني‏:‏ الغنائم أحلَّها لكم ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ كي تطيعوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله‏}‏ بترك فرائضه ‏{‏والرسول‏}‏ بترك سنَّته ‏{‏وتخونوا‏}‏ أَيْ‏:‏ ولا تخونوا ‏{‏أماناتكم‏}‏ وهي كلُّ ما ائتمن الله عليها العباد، وكلُّ أحدٍ مؤتمنٌ على ما افترض الله عليه ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أنَّها أمانةٌ من غير شبهةٍ‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي لُبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُريظة لمَّا حاصرهم، وكان أهله وولده فيهم، فقالوا له‏:‏ ما ترى لنا‏؟‏ أننزل على حكم سعدٍ فينا‏؟‏ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أنَّه الذَّبح، فلا تفعلوا، وكانت منه خيانةً لله ورسوله‏.‏

‏{‏واعلموا أنَّما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ أَيْ‏:‏ محنةٌ يظهر بها ما في النَّفس من اتِّباع الهوى أو تجنُّبه، ولذلك مال أبو لبابة إلى قُريظة في إطلاعهم على حكم سعد؛ لأنَّ ماله وولده كانت فيهم ‏{‏وإنَّ الله عنده أجر عظيم‏}‏ لمن أدى الأمانة ولم يخن‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله‏}‏ باجتناب الخيانة فيما ذُكر ‏{‏يجعل لكم فرقاناً‏}‏ يفرق بينكم وبين ما تخافون، فتنجون ‏{‏ويكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ لا يمنعكم ما وعدكم على طاعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ وذلك أنَّ مشركي قريش تآمروا في دارة النَّدوة في شأن محمَّد عليه السًّلام، فقال بعضهم‏:‏ قيِّدوه نتربص به ريب المنون، وقال بعضهم‏:‏ أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل- لعنه الله-‏:‏ ما هذا برأي، ولكن اقتلوه، بأن يجتمع عليه من كلِّ بطنٍ رجلٌ، فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ، فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلِّها، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه بذلك، وأمره بالهجرة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليثبتوك‏}‏ أَيْ‏:‏ ليوثقوك ويشدُّوك ‏{‏أو يقتلوك‏}‏ بأجمعهم قتلةَ رجلٍ واحدٍ، كما قال اللَّعين أبو جهل، ‏{‏أو يخرجوك‏}‏ من مكَّة إلى طرفٍ من أطراف الأرض ‏{‏ويمكرون ويمكر الله‏}‏ أَيْ‏:‏ يجازيهم جزاء مكرهم بنصر المؤمنين عليهم ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏ أفضل المجازين بالسَّيئِة العقوبة، وذلك أنَّه أهلك هؤلاء الذين دبَّروا لنبيِّه الكيد، وخلَّصه منهم‏.‏

‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ كان النَّضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجراً، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، فكان يقعد به مع المستهزئين، فيقرأ عليهم، فلمَّا قصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضرُ بن الحارث‏:‏ لو شئتُ لقلتُ مثل هذا، إنْ هذا إلاَّ ما سطَّر الأوَّلون في كتبهم، وقال النَّضر أيضاً‏:‏

‏{‏اللهم إن كان هذا‏}‏ الذي يقوله محمَّدٌ حقَّاً ‏{‏من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏ كما أمطرتها على قوم لوط ‏{‏أو ائتنا بعذابٍ أليم‏}‏ أَيْ‏:‏ ببعض ما عذَّبت به الأمم‏.‏ حمله شدَّة عداوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم على إظهار مثل هذا القول، ليوهم أنَّه على بصيرةٍ من أمره، وغاية الثِّقة في أمر محمَّد، أنَّه ليس على حقٍّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 39‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏}‏ وما كان الله ليعذِّب المشركين وأنت مقيمٌ بين أظهرهم؛ لأنَّه لم يعذِّب الله قريةً حتى يخرج النبيُّ منها والذين آمنوا معه ‏{‏وما كان الله‏}‏ معذِّبَ هؤلاء الكفَّار وفيهم المؤمنون ‏{‏يستغفرون‏}‏ يعني‏:‏ المسلمين، ثمَّ قال‏:‏

‏{‏وما لهم ألا يعذِّبهم الله‏}‏ أَيْ‏:‏ ولمَ لا يعذِّبهم الله بالسَّيف بعد خروج مَنْ عنى بقوله‏:‏ ‏{‏وهم يستغفرون‏}‏ من بينِهم ‏{‏وهم يصدون‏}‏ يمنعون النبيِّ والمؤمنين ‏{‏عن المسجد الحرام‏}‏ أن يطوفوا به ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ وذلك أنَّهم قالوا‏:‏ نحن أولياء المسجد، فردَّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن أولياؤه إلاَّ المتقون‏}‏ يعني‏:‏ المهاجرين والأنصار ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون‏}‏ غيبَ علمي وما سبق في قضائي‏.‏

‏{‏وما كان صلاتهم عند البيت إلاَّ مكاءً وتصديةً‏}‏ أَيْ‏:‏ صفيراً وتصفيقاً، وكانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً يُصفِّرون ويُصفِّقون، جعلوا ذلك صلاةً لهم، فكان تَقرُّبُهم إلى الله بالصَّفير والصَّفيق ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏ ببدرٍ ‏{‏بما كنتم تكفرون‏}‏ تجحدون توحيد الله تعالى‏.‏

‏{‏إنَّ الذين كفروا‏}‏ نزلت في المُنفقين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيَّام بدرٍ، وكانوا اثني عشر رجلاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة‏}‏ بذهاب الأموال، وفوات المراد‏.‏

‏{‏ليميز الله الخبيث من الطيب‏}‏ أَيْ‏:‏ إنما تحشرون إلى جهنَّم ليميِّز بين أهل الشَّقاوة، وأهل السَّعادة ‏{‏ويجعل الخبيث‏}‏ أَي‏:‏ الكافر، وهو اسم الجنس ‏{‏بعضه على بعض‏}‏ يلحق بعضهم ببعض ‏{‏فيركمه جميعاً‏}‏ أَيْ‏:‏ يجمعه حتى يصير كالسَّحاب المركوم ثمَّ ‏{‏فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون‏}‏ لأنَّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة‏.‏

‏{‏قل للذين كفروا‏}‏ أبي سفيان وأصحابه‏:‏ ‏{‏إن ينتهوا‏}‏ عن الشِّرك وقتال المؤمنين ‏{‏يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ تقدَّم من الزِّنا والشِّرك؛ لأنَّ الحربيَّ إذا أسلم عاد كَمِثْلِهِ يوم ولدته أمه ‏{‏وإن يعودوا‏}‏ للقتال ‏{‏فقد مضت سنَّة الأولين‏}‏ بنصر اللَّهِ رسلَه ومَنْ آمن على مَنْ كفر‏.‏

‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ كفرٌ ‏{‏ويكون الدين كله لله‏}‏ لا يكون مع دينكم كفرٌ في جزيرة العرب ‏{‏فإن انتهوا‏}‏ عن الشِّرك ‏{‏فإنَّ الله بما يعملون بصير‏}‏ يُجازيهم مُجازاة البصير بهم وبأعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وإن تولوا‏}‏ أَبَوا أن يدعوا الشِّرك وقتال محمد ‏{‏فاعلموا أنَّ الله مولاكم‏}‏ ناصركم يا معشر المؤمنين‏.‏

‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ أخذتموه قسراً من الكفَّار ‏{‏فَأَنَّ لله خمسه‏}‏ هذا تزيينٌ لافتتاح الكلام، ومصرف الخمس إلى حيث ذَكر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وللرسول‏}‏ كان له خمس الخمس يصنع فيه ما شاء، واليوم يُصرف إلى مصالح المسلمين ‏{‏ولذي القربى‏}‏ وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين حُرِّمت عليهم الصَّدقات المفروضة، لهم خمس الخمس من الغنيمة ‏{‏واليتامى‏}‏ وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم، يُنفق عليهم من خُمس الخمس ‏{‏والمساكين‏}‏ وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين، لهم أيضاً خمس الخمس ‏{‏وابن السبيل‏}‏ المنقطع به في سفره، فخمس الغنيمة يقسم على خمسة أخماس كما ذكره الله تعالى، وأربعة أخماسها تكون للغانمين، وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم آمنتم بالله‏}‏ أَيْ‏:‏ فافعلوا ما أُمرتم به في الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله ‏{‏وما أنزلنا على عبدنا‏}‏ يعني‏:‏ هذه السُّورة ‏{‏يوم الفرقان‏}‏ اليوم الذي فرَّقت به بين الحقِّ والباطل ‏{‏يوم التقى الجمعان‏}‏ حزب الله، وحزب الشَّيطان ‏{‏والله على كلِّ شيء قدير‏}‏ إذ نصركم الله وأنتم أقلَّةٌ أذلَّةٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏إذ أنتم بالعدوة الدنيا‏}‏ نزولٌ بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة، وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكَّة ‏{‏والركب‏}‏ أبو سفيان وأصحابه، وهم أصحاب الإِبل‏.‏ يعني‏:‏ العير ‏{‏أسفل منكم‏}‏ إلى ساحل البحر ‏{‏ولو تواعدتم‏}‏ للقتال ‏{‏لاختلفتم في الميعاد‏}‏ لتأخَّرتم فنقضتم الميعاد لكثرتهم وقلَّتكم ‏{‏ولكن‏}‏ جمعكم الله من غير ميعاد ‏{‏ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ في علمه وحكمه من نصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بيِّنة‏}‏ أَيْ‏:‏ فعل ذلك ليضلَّ ويكفر مَنْ كفر من بعد حجَّةٍ قامت عليه، وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، وأراد بالبيِّنة نصرة المؤمنين مع قلَّتهم على ذلك الجمع الكثير مع كثرتهم وشوكتهم ‏{‏وإنَّ الله لسميع‏}‏ لدعائكم ‏{‏عليمٌ‏}‏ بنيَّاتكم‏.‏

‏{‏إذ يريكهم الله في منامك‏}‏ عينك، وهو موضع النَّوم ‏{‏قليلاً‏}‏ لتحتقروهم وتجترؤوا عليهم ‏{‏ولو أراكهم كثيراً لفشلتهم‏}‏ لجّبُنْتُم ولَتأخَّرتم عن حربهم ‏{‏ولتنازعتم في الأمر‏}‏ واختلفت كلمتكم ‏{‏ولكنَّ الله سلَّم‏}‏ عصمكم وسلَّمكم من المخالفة فيما بينكم ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ علم ما في صدوركم من اليقين ثمَّ خاطب المؤمنين جميعأً بهذا المعنى فقال‏:‏

‏{‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً‏}‏ قال ابن مسعودٍ‏:‏ لقد قُلَّلوا في أعيننا يوم بدرٍ حتى قلت لرجلٍ إلى جنبي‏:‏ تراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أراهم مائة، وأسرنا رجلاً فقلنا‏:‏ كم كنتم‏؟‏ قال‏:‏ ألفاً‏.‏ ‏{‏ويقللكم في أعينهم‏}‏ ليجترئوا عليكم ولا يراجعوا عن قتالكم ‏{‏ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ في علمه بنصر الإسلام وأهله، وذلِّ الشِّرك وأهله ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ وبعد هذا إليَّ مصيركم، فأكرم أوليائي، وأعاقب أَعدائي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة‏}‏ جماعةً كافرةً ‏{‏فاثبتوا‏}‏ لقتالهم ولا تنهزموا ‏{‏واذكروا الله كثيراً‏}‏ ادعوه بالنَّصر عليهم ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ كي تسعدوا وتبقوا في الجنة، فإنَّهما خصلتان؛ إمَّا الغنيمة؛ وإمَّا الشَّهادة‏.‏

‏{‏وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا‏}‏ ولا تختلفوا ‏{‏فتفشلوا‏}‏ تجبنوا ‏{‏وتذهب ريحكم‏}‏ جَلَدكم وجرأتكم ودولتكم‏.‏

‏{‏ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم‏}‏ يعني‏:‏ النَّفير ‏{‏بطراً‏}‏ طُغياناً في النِّعمة، للجميل مع إبطان القبيح ‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏ لمعاداة المؤمنين وقتالهم ‏{‏والله بما يعملون محيط‏}‏ عالم فيجازيهم به‏.‏

‏{‏وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وذلك أنَّ قريشاً لمَّا أجمعت المسير خافت كنانة وبني مدلج لطوائلَ كانت بينهم، فتبدَّى لهم إبليس ‏[‏في جنده‏]‏ على صورة سُراقة بن مالك بن جعشم الكنانيِّ ثمَّ المدلجيِّ، فقالوا له‏:‏ نحنُ نريد قتال هذا الرَّجل، ونخاف من قومك، فقال لهم‏:‏ أنا جارٌ لكم، أَيْ‏:‏ حافظٌ من قومي، فلا غالب لكم اليوم من النَّاس ‏{‏فلما تراءت الفئتان‏}‏ التقى الجمعان ‏{‏نكص على عقبيه‏}‏ رجع مولياً، فقيل له‏:‏ يا سراقة، أفراراً من غير قتال‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏{‏إني أرى ما لا ترون‏}‏ وذلك أنَّه رأى جبريل مع الملائكة جاؤوا لنصر المؤمنين ‏{‏إني أخاف الله‏}‏ أن يهلكني فيمن يهلك ‏{‏والله شديد العقاب‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 53‏]‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ وهم قومٌ أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فلمَّا خرجت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم، وقالوا‏:‏ نكون مع أكثر الفئتين، فلمَّا رأوا قلَّة المسلمين قالوا‏:‏ ‏{‏غرَّ هؤلاء دينهم‏}‏ إذ خرجوا مع قلَّتهم يقاتلون الجمع الكثير، ثمَّ قُتلوا جميعاً مع المشركين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَنْ يتوكل على الله‏}‏ يُسلم أمره إلى الله ‏{‏فإنَّ الله عزيز‏}‏ قويٌّ منيع ‏{‏حكيم‏}‏ في خلقه‏.‏

‏{‏ولو ترى‏}‏ يا محمَّد ‏{‏إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة‏}‏ يأخذون أرواحهم‏.‏ يعني‏:‏ مَنْ قُتلوا ببدرٍ ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم‏}‏ مقاديمهم إذا أقبلوا إلى المسلمين، ومآخيرهم إذا ولًّوا ‏{‏وذوقوا‏}‏ أَيْ‏:‏ ويقولون لهم بعد الموت‏:‏ ذوقوا بعد الموت ‏{‏عذاب الحريق‏}‏‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ هذا العذاب ‏{‏بما قدَّمت أيديكم‏}‏ بما كسبتم وجنيتم ‏{‏وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ لأنَّه حكم فيما يقضي‏.‏

‏{‏كدأب آل فرعون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يريد‏:‏ عادة هؤلاء في التَّكذيب كعادة آل فرعون، فأنزل الله تعالى بهم عقوبته، كما أنزل بآل فرعون ‏{‏إنَّ الله قويٌّ‏}‏ قادرٌ لا يغلبه شيء ‏{‏شديد العقاب‏}‏ لمَنْ كفر به وكذَّب رسله‏.‏

‏{‏ذلك بأنَّ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ إنَّ الله تعالى أطعم أهل مكَّة من جوعٍ، وآمنهم من خوف، وبعث إليهم محمداً رسولاً، وكان هذا كلُّه ممَّا أنعم عليهم، ولم يكن يُغيِّر عليهم لو لم يُغيِّروا هم، وتغييرهم كفرهم بها وتركهم شكرها، فلمَّا غيَّروا ذلك غيَّر الله ما بهم، فسلبهم النِّعمة وأخذهم، ثمَّ نزل في يهود قريظة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏إن شرَّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏

‏{‏الذين عاهدت منهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وذلك أنَّهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا عليه مشركي مكَّة بالسِّلاح، ثمَّ اعتذروا وقالوا‏:‏ أخطأنا، فعاهدهم ثانيةً فنقضوا العهد يوم الخندق، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثمَّ ينقضون عهدهم في كلِّ مرَّة وهم لا يتقون‏}‏ عقاب الله في ذلك‏.‏

‏{‏فإمَّا تثقفنَّهم في الحرب‏}‏ فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم ‏{‏فشرد بهم مَنْ خلفهم‏}‏ فافعل بهم فعلاً من التَّنكيل والعقوبة يفرق به جمعُ كلِّ ناقضِ عهدٍ، فيعتبروا بما فعلت بهؤلاء، فلا ينقضوا العهد، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏‏.‏

‏{‏وإمَّا تخافنَّ من قوم‏}‏ تعلمنَّ من قومٍ ‏{‏خيانة‏}‏ نقضاً للعهد بدليلٍ يظهر لك ‏{‏فانبذ إليهم على سواء‏}‏ أَي‏:‏ انبذ عهدهم الذي عاهدتهم عليه؛ لتكون أنت وهم سواءً في العداوة، فلا يتوهموا أنَّك نقضت العهد بنصب الحرب، أَيْ‏:‏ أعلمهم أنَّك نقضت عهدهم لئلا يتوهَّموا بك الغدر ‏{‏إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين‏}‏ الذين يخونون في العهود وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 64‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تحسبنَّ الذين كفروا سبقوا‏}‏ وذلك أنَّ مَنْ أفلت من حرب بدرٍ من الكفَّار خافوا أن ينزل بهم هلكة في الوقت، فلمَّا لم ينزل طغوا وبغوا، فقال الله‏:‏ لا تحسبنَّهم سبقونا بسلامتهم الآن ف ‏{‏إنهم لا يعجزون‏}‏ نا ولا يفوتوننا فيما يستقبلون من الأوقات‏.‏

‏{‏وأعدوا لهم‏}‏ أَيْ‏:‏ خذوا العُدَّة لعدوِّكم ‏{‏ما استطعتم من قوة‏}‏ ممَّا تتقوون به على حربهم، من السِّلاح والقسي وغيرهما ‏{‏ومن رباط الخيل‏}‏ ممَّا يرتبط من الفرس في سبيل الله ‏{‏ترهبون به‏}‏ تخوِّفون به بما استطعتم ‏{‏عدو الله وعدوكم‏}‏ مشركي مكَّة وكفَّار العرب ‏{‏وآخرين من دونهم‏}‏ وهم المنافقون ‏{‏لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏ لأنَّهم معكم يقولون‏:‏ لا إله إلاَّ الله، ويغزون معكم، والمنافق يريبه عدد المسلمين ‏{‏وما تنفقوا من شيء‏}‏ من آلةٍ، وسلاحٍ، وصفراء، وبيضاء ‏{‏في سبيل الله‏}‏ طاعة الله ‏{‏يوف إليكم‏}‏ يخلف لكم في العاجل، ويوفَّر لكم أجره في الآخرة ‏{‏وأنتم لا تظلمون‏}‏ لا تنقصون من الثَّواب‏.‏

‏{‏وإن جنحوا للسلم‏}‏ مالوا إلى الصُّلح ‏{‏فاجنح لها‏}‏ فملْ إليها‏.‏ يعني‏:‏ المشركين واليهود، ثمَّ نسخ هذا بقوله‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله‏}‏ ‏{‏وتوكَّل على الله‏}‏ ثق به ‏{‏إنَّه هو السميع‏}‏ لقولكم ‏{‏العليم‏}‏ بما في قلوبكم‏.‏

‏{‏وإن يريدوا أن يخدعوك‏}‏ بالصُّلح لتكفَّ عنهم ‏{‏فإنَّ حسبك الله‏}‏ أَيْ‏:‏ فالذي يتولَّى كفايتك الله ‏{‏هو الذي أيدك‏}‏ قوَّاك ‏{‏بنصره‏}‏ يوم بدرٍ ‏{‏وبالمؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ الأنصار‏.‏

‏{‏وألف بين قلوبهم‏}‏ بين قلوب الأوس والخزرج، وهم الأنصار ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم‏}‏ للعداوة التي كانت بينهم، ‏{‏ولكنَّ الله ألف بينهم‏}‏ لأنَّ قلوبهم بيده يُؤلِّفها كيف يشاء ‏{‏إنَّه عزيز‏}‏ لا يمتنع عليه شيء ‏{‏حكيم‏}‏ عليمٌ بما يفعله‏.‏

‏{‏يا أيها النبيُّ حسبك الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أسلم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً، وستُّ نسوةٍ، ثمَّ أسلم عمر رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، والمعنى‏:‏ يكفيك الله، ويكفي من اتَّبعك من المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها النبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال‏}‏ حُضَّهم على نصر دين الله ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ يريد‏:‏ الرَّجل منكم بعشرة منهم في الحرب، ‏{‏وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون‏}‏ أَيْ‏:‏ هم على جهالةٍ، فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خلاف مَنْ يقاتل على بصيرةٍ يرجو ثواب الله، وكان الحكم على هذا زماناً، يُصابر الواحد من المسلمين العشرة من الكفَّار، فتضرَّعوا وشكوا إلى الله عزَّ وجلَّ ضعفهم، فنزل‏:‏

‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ هوَّن عليكم ‏{‏وعلم أنَّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين‏}‏‏.‏ فصار الرَّجل من المسلمين برجلين من الكفَّار، وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ أَيْ‏:‏ بإرادته ذلك‏.‏

‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في فداء أسارى بدر، فادوهم بأربعة ألاف ألف، فأنكر الله عزَّ وجلَّ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله‏:‏ لم يكن لنبيِّ أن يحبس كافراً قَدَر عليه للفداء، فلا يكون له أيضاً حتى يُثخن في الأرض‏:‏ يُبالغ في قتل أعدائه ‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏ أي‏:‏ الفِداء ‏{‏والله يريد الآخرة‏}‏ يريد لكم الجنة بقتلهم، وهذه الآية بيان عمَّا يجب أن يجتنب من اتِّخاذ الأسرى للمنِّ أو الفِداء قبل الإِثخان في الأرض بقتل الأعداء، وكان هذا في يوم بدر، ولم يكونوا قد أثخنوا، فلذلك أنكر الله عليهم، ثمَّ نزل بعده‏:‏ ‏{‏فإمَّا منَّاً بعدُ وإمَّا فداءً‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ يا محمَّد أنَّ الغنائم وفداء الأسرى لك ولأمَّتك حلال ‏{‏لَمَسَّكُمْ فيما أخذتم‏}‏ من الفِداء ‏{‏عذاب عظيم‏}‏ فلمَّا نزل هذا أمسكوا أيديهم عمَّا أخذوا من الغنائم، فنزل‏:‏

‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله‏}‏ بطاعته ‏{‏إنَّ الله غفور‏}‏ غفر لكم ما أخذتم من الفِداء ‏{‏رحيم‏}‏ رحمكم لأنَّكم أولياؤه‏.‏

‏{‏يأ أيها النبيُّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً‏}‏ إرادةً للإِسلام ‏{‏يؤتكم خيراً مما أخذ منكم‏}‏ من الفِداء‏.‏ يعني‏:‏ إِنْ أسلمتم وعلم الله إسلام قلوبكم أخلف عليكم خيراً ممَّا أُخذ منكم ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ ما كان من كفركم وقتالكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وإن يريدوا خيانتك‏}‏ وذلك أنَّهم قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمنَّا بك، ونشهد أنَّك رسول الله، فقال الله تعالى‏:‏ إن خانوك وكان قولهم هذا خيانة ‏{‏فقد خانوا الله من قبل‏}‏ كفروا به ‏{‏فأمكن منهم‏}‏ المؤمنين ببدرٍ، وهذا تهديدٌ لهم إن عادوا إلى القتال ‏{‏والله عليم‏}‏ بخيانةٍ إن خانوها ‏{‏حكيم‏}‏ في تدبيره ومجازاته إيَّاهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 75‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الذين آمنوا وهاجروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في الميراث كانوا في ابتداء الإسلام يتوارثون بالهجرة والنُّصرة، فكان الرَّجل يُسلم ولا يهاجر، فلا يرث أخاه فذلك قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وهاجروا‏}‏ هجروا قومهم وديارهم وأموالهم ‏{‏والذين آووا ونصروا‏}‏ يعني‏:‏ الأنصار، أسكنوا المهاجري ديارهم ونصروهم ‏{‏أولئك بعضهم أولياء بعض‏}‏ أيْ‏:‏ هؤلاء هم الذين يتوارثون بعضهم من بعض‏.‏

‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء‏}‏ أَيْ‏:‏ ليسوا بأولياء، ولا يثبت التَّوارث بينكم وبينهم ‏{‏حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء الذين لم يهاجروا فلا تخذولهم وانصروهم ‏{‏إلاَّ‏}‏ أن يستنصروكم ‏{‏على قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ عهدٌ فلا تغدروا ولا تعاونوهم‏.‏

‏{‏والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏ أَيْ‏:‏ لا توارث بينكم وبينهم، ولا ولاية، والكافر وليُّ الكافر دون المسلم ‏{‏إلاَّ تفعلوه‏}‏ إلاَّ تعاونوا وتناصروا وتأخذوا في الميراث بما أمرتكم به ‏{‏تكن فتنة في الأرض‏}‏ شركٌ ‏{‏وفساد كبير‏}‏ وذلك أنَّ المسلم إذا هجر قريبه الكافر كان ذلك أدعى إلى الإسلام، فإن لم يهجره وتوارثه بقي الكافر على كفره، وقوله‏:‏

‏{‏والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنُّصرة خلاف من أقام بدار الشِّرك‏.‏

‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏ يعني‏:‏ الذين هاجروا بعد الحديبية، وهي الهجرة الثانية ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ نَسخ الله الميراثَ بالهجر والحِلْفِ بعد فتح مكَّة‏.‏ ردَّ الله المواريث إلى ذوي الأرحام‏:‏ ابن الأخ والعمِّ وغيرهما ‏{‏في كتاب الله‏}‏ في حكم الله ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏‏.‏

سورة التوبة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏براءة من الله ورسوله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أخذت المشركون ينقضون عهوداً بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وينبذها إليهم، وأنزل هذه الآية، والمعنى‏:‏ قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا، ثمَّ خاطب المشركين فقال‏:‏

‏{‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏}‏ سيروا فيها آمنين حيث شئتم‏.‏ يعني‏:‏ شوالاً إلى صفر، وهذا تأجيلٌ من الله سبحانه للمشركين، فإذا انقضت هذه المدَّة قُتلوا حيثما أُدركوا ‏{‏واعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ لا تفوتونه وإنْ أُجِّلتم هذه المدَّة ‏{‏وأنَّ الله مُخْزي الكافرين‏}‏ مذلُّهم في الدُّنيا بالقتل، والعذاب في الآخرة‏.‏

‏{‏وأذان من الله‏}‏ إعلامٌ منه ‏{‏ورسوله إلى الناس‏}‏ يعني‏:‏ العرب ‏{‏يوم الحج الأكبر‏}‏ يوم عرفة‏.‏ وقيل‏:‏ يوم النَّحر، والحجُّ الأكبر ‏[‏الحجُّ‏]‏ بجميع أعماله، والأصغر العمرة ‏{‏أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ‏}‏ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُعلم مشركي العرب في يوم الحجِّ الأكبر ببراءته من عهودهم، فبعث عليَّاً رضي الله عنه حيث قرأ صدر براءة عليهم يوم النَّحر، ثمَّ خاطب المشركين، فقال‏:‏ ‏{‏فإن تبتم‏}‏ رجعتم عن الشِّرك ‏{‏فهو خيرٌ لكم‏}‏ من الإِقامة عليه ‏{‏وإن توليتم‏}‏ عن الإِيمان ‏{‏فاعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ لا تفوتونه بأنفسكم عن العذاب، ثمَّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وبشر الذين كفروا بعذاب أليم‏}‏ ثمَّ استثنى قوماً من براءة العهود، فقال‏:‏

‏{‏إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثمَّ لم ينقصوكم‏}‏ من شروط العهد ‏{‏شيئاً‏}‏ وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ‏{‏ولم يظاهروا عليكم أحداً‏}‏ لم يعاونوا عليكم عدوَّاً ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم‏}‏ إلى انقضاء مدَّتهم، وكان قد بقي لهم من مدَّتهم تسعة أشهر، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإتمامها لهم ‏{‏إنَّ الله يحب المتقين‏}‏ مَنِ اتَّقاه بطاعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 12‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ يعني‏:‏ مدَّة التَّأجيل ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ في حلٍّ أو حرمٍ ‏{‏وخذوهم‏}‏ بالأسر ‏{‏واحصروهم‏}‏ إنْ تحصَّنوا ‏{‏واقعدوا لهم كلَّ مرصد‏}‏ على كلِّ طريقٍ تأخذون فيه ‏{‏فإنْ تابوا‏}‏ رجعوا عن الشِّرك ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ المفروضة ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ من العين والثِّمار والمواشي ‏{‏فخلوا سبيلهم‏}‏ فدعوهم وما شاؤوا ‏{‏إنَّ الله غفور رحيم‏}‏ لمَنْ تاب وآمن‏.‏

‏{‏وإن أحد من المشركين‏}‏ الذين أمرتك بقتلهم ‏{‏استجارك‏}‏ طلب منك الأمان من القتل ‏{‏فأجره‏}‏ فاجعله في أمنٍ ‏{‏حتى يسمع كلام الله‏}‏ القرآن، فتقيم عليه حجَّةَ الله، وتبيِّن له دين الله ‏{‏ثمَّ أبلغه مأمنه‏}‏ إذا لم يرجع عن الشِّرك لينظر في أمره ‏{‏ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون‏}‏ ‏[‏يفعلونَ‏]‏ كلَّ هذا لأنَّهم قومٌ جهلةٌ لا يعلمون دين الله وتوحيده‏.‏

‏{‏كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله‏}‏ مع إضمارهم الغدر ونكثهم العهد ‏{‏إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام‏}‏ يعني‏:‏ الذين استثناهم من البراءة ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم‏.‏

‏{‏كيف‏}‏ أَيْ‏:‏ كيف يكون لهم عهدهم ‏{‏و‏}‏ حالُهم أنَّهم ‏{‏إنْ يظهروا عليكم‏}‏ يظفروا بكم ويقدروا عليكم ‏{‏لا يرقبوا فيكم‏}‏ لا يحفظوا فيكم ‏{‏إلاًّ ولا ذمَّةً‏}‏ قرابةً ولا عهداً ‏{‏يرضونكم بأفواههم‏}‏ يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً ‏{‏وتأبى قلوبهم‏}‏ الوفاء به ‏{‏وأكثرهم فاسقون‏}‏ غادرون ناقضون للعهد‏.‏

‏{‏اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ استبدلوا بالقرآن متاع الدُّنيا ‏{‏فصدوا عن سبيله‏}‏ فأعرضوا عن طاعته ‏{‏إنهم ساء‏}‏ بئس ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ من اشترائهم الكفر بالإِيمان‏.‏

‏{‏لا يرقبون‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء النَّاقضين للعهد ‏{‏وأولئك هم المعتدون‏}‏ المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد‏.‏

‏{‏فإن تابوا‏}‏ عن الشِّرك ‏{‏وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم‏}‏ أَيْ‏:‏ فهم إخوانكم ‏{‏في الدين ونفصِّل الآيات‏}‏ نبيِّن آيات القرآن ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ أنَّها من عند الله‏.‏

‏{‏وإن نكثوا أيمانهم‏}‏ نقضوا عهودهم ‏{‏وطعنوا في دينكم‏}‏ اغتابوكم وعابوا دينكم ‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ رؤساء الضَّلالة‏.‏ يعني‏:‏ صناديد قريش ‏{‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏ لا عهود لهم ‏{‏لعلهم ينتهون‏}‏ كي ينتهوا عن الشِّرك بالله، ثمَّ حرَّض المؤمنين عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم‏}‏ يعني‏:‏ كفَّار مكَّة نقضوا العهد، أعانوا بني بكر على خزاعة ‏{‏وهموا بإخراج الرسول‏}‏ من مكَّة ‏{‏وهم بدؤوكم‏}‏ بالقتال ‏{‏أول مرة‏}‏ حين قاتلوا حلفاءكم خزاعة، فبدؤوا بنقض العهد ‏{‏أتخشونهم‏}‏ أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم ‏{‏فالله أحق أن تخشوه‏}‏ فمكروهُ عذابِ الله أحقُّ أن يُخشى في ترك قتالهم ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ مصدِّقين بعقاب الله وثوابه‏.‏

‏{‏قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم‏}‏ يقتلهم بسيوفكم ورماحكم ‏{‏ويخزهم‏}‏ يُذلُّهم بالقهر والأسر ‏{‏ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ بني خزاعة‏.‏ أعانت قريشٌ بني بكر عليهم حتى نكثوا فيها، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ والمؤمنين‏.‏

‏{‏ويذهب غيظ قلوبهم‏}‏ كَرْبَها ووَجْدَها بمعونة قريش بكراً عليهم ‏{‏ويتوب الله على من يشاء‏}‏ من المشركين، كأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو‏.‏ هداهم الله للإسلام‏.‏

‏{‏أم حسبتم‏}‏ أيُّها المنافقون ‏{‏أن تتركوا‏}‏ على ما أنتم عليه من التَّلبيس، وكتمان النفاق ‏{‏ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏ بنيَّةٍ صادقةٍ‏.‏ يعني‏:‏ العلم الذين يتعلَّق بهم بعد الجهاد، وذلك أنَّه لما فُرض القتال تبيَّن المنافق من غيره، ومَنْ يوالي المؤمنين ممَّن يوالي أعداءهم ‏{‏ولم يتخذوا‏}‏ أَيْ‏:‏ ولمَّا يعلم الله الذين لم يتَّخذوا ‏{‏من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة‏}‏ أولياء ودُخُلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ نزلت في العباس بن عبد المطلب حين عُيِّر لمَّا أُسر، فقال‏:‏ إنَّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاجَّ، فردَّ الله ذلك عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ بدخوله والتعوُّذ فيه؛ لأنَّهم ممنوعون عن ذلك ‏{‏شاهدين على أنفسهم بالكفر‏}‏ بسجودهم للأصنام واتِّخاذها آلهة‏.‏ ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم‏}‏ لأنَّ كفرهم أذهب ثوابها‏.‏

‏{‏إنما يعمر مساجد الله‏}‏ بزيارتها والقعود فيها ‏{‏مَنْ آمن بالله وباليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة‏}‏ والمعنى‏:‏ إنَّ مَنْ كان بهذه الصِّفة فهو من أهل عمارة المسجد ‏{‏ولم يخش‏}‏ في باب الدِّين ‏{‏إلاَّ الله فعسى أولئك‏}‏ أَيْ‏:‏ فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدِّي إلى الجنَّة‏.‏

‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ قال المشركون‏:‏ عمارة بيت الله، وقيامٌ على السِّقاية خيرٌ من الإِيمان والجهاد، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وسقاية الحاج‏:‏ سقيهم الشَّراب في الموسم، وقوله‏:‏ ‏{‏وعمارة المسجد الحرام‏}‏ يريد‏:‏ تجميره وتخليقه ‏{‏كمَنْ آمن‏}‏ أَيْ‏:‏ كإيمان من آمن ‏{‏بالله‏}‏‏؟‏ ‏{‏لا يستوون عند الله‏}‏ في الفضل ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ الذين زعموا أنَّهم أهل العمارة سمَّاهم ظالمين بشركهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله‏}‏ أَيْ‏:‏ من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاجِّ ‏{‏وأولئك هم الفائزون‏}‏ الذين ظفروا بأمنيتهم‏.‏

‏{‏يبشرهم ربهم برحمة منه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أَيْ‏:‏ يعلمهم في الدُّنيا ما لهم في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 27‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ لمَّا أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان من النَّاس مَنْ يتعلَّق به زوجته وولده وأقاربه، ويقولون‏:‏ ننشدك بالله أن تضيِّعنا، فيرقُّ لهم ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء‏}‏ أصدقاء تُؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة ‏{‏إن استحبوا‏}‏ اختاروا ‏{‏الكفر على الإِيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون‏}‏ أَيْ‏:‏ مشركون مثلهم، فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ يا نبيَّ الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدِّين نقطع آباءنا وعشائرنا، وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا، فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها‏}‏ أَيْ‏:‏ اكتسبتموها ‏{‏فتربصوا‏}‏ مقيمين بمكَّة ‏{‏حتى يأتي الله بأمره‏}‏ فتح مكَّة، فيسقط فرض الهجرة، وهذا أمر تهديد ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ تهديدٌ لهؤلاء بحرمان الهداية‏.‏

‏{‏ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين‏}‏ وهو وادٍ بين مكَّة والطَّائف، قاتل عليه نبيُّ الله عليه السَّلام هوازن وثقيفاً ‏{‏إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ وذلك أنَّهم قالوا‏:‏ لن نُغلب اليوم من قلَّةٍ، وكانوا اثني عشر ألفاً ‏{‏فلم تغن‏}‏ لم تدفع عنكم شيئاً ‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت‏}‏ لشدَّة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها، فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لقراركم ‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏ انهزمتم‏.‏ أعلمهم الله تعالى أنَّهم ليسوا يغلبون بكثرتهم، إنَّما يَغلبون بنصر الله‏.‏

‏{‏ثم أنزل الله سكينته‏}‏ وهو ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته ‏{‏على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها‏}‏ يريد‏:‏ الملائكة ‏{‏وعذب الذين كفروا‏}‏ بأسيافكم ورماحكم ‏{‏وذلك جزاء الكافرين‏}‏‏.‏

‏{‏ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء‏}‏ فيهديهم إلى الإِسلام، من الكفَّار ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ بمَنْ آمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس‏}‏ لا يغتسلون من جنابةٍ، ولا يتوضؤون من حدثٍ ‏{‏فلا يقربوا المسجد الحرام‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يدخلوا الحرم‏.‏ مُنعوا من دخول الحرم، فالحرمُ حرامٌ على المشركين ‏{‏بعد عامهم هذا‏}‏ يعني‏:‏ عام الفتح، فلمَّا مُنعوا من دخول الحرم قال المسلمون‏:‏ إنَّهم كانوا يأتون بالميرة، فالآن تنقطع عنا المتاجر، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏ فقراً ‏{‏فسوف يغنيكم الله من فضله‏}‏ فأسلم أهل جدَّة وصنعاء وجرش، وحملوا الطَّعام إلى مكَّة، وكفاهم الله ما كانوا يتخوَّفون ‏{‏إنَّ الله عليم‏}‏ بما يصلحكم ‏{‏حكيم‏}‏ فيما حكم في المشركين، ثمَّ نزل في جهاد أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى قوله‏:‏

‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ يعني‏:‏ كإيمان الموحِّدين وإيمانُهم غيرُ إيمانٍ إذا لم يؤمنوا بمحمد ‏{‏ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله‏}‏ يعني‏:‏ الخمر والميسر ‏{‏ولا يدينون دين الحق‏}‏ لا يتدينون بدين الإِسلام ‏{‏حتى يعطوا الجزية‏}‏ وهي ما يعطي المعاهِد على عهده ‏{‏عن يد‏}‏ يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين، ولا يجيئون بها ركباناً، ولا يرسلون بها ‏{‏وهم صاغرون‏}‏ ذليلون مقهورون يُجَرُّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف، حتى يؤدُّوها من يدهم‏.‏

‏{‏وقالت اليهود عزير ابنُ الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم‏}‏ ليس فيه برهانٌ ولا بيانٌ، إنَّما هو قولٌ بالفم فقط ‏{‏يُضاهئون‏}‏ يتشبَّهون بقول المشركين حين قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، وقد أخبر الله عنهم‏.‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وخرقوا له بنين وبناتٍ‏}‏ ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ لعنهم الله ‏{‏أنى يؤفكون‏}‏ كيف يُصرفون عن الحقِّ بعد وضوح الدَّليل حتى يجعلوا لله الولد، وهذا تعجيب للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏

‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم‏}‏ علماؤهم وعُبَّادهم ‏{‏أرباباً‏}‏ آلهةً ‏{‏من دون الله‏}‏ حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ الله ‏{‏والمسيح ابن مريم‏}‏ اتخذوه ربَّاً ‏{‏وما أمروا‏}‏ في التَّوراة والإِنجيل ‏{‏إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً‏}‏ وهو الذي لا إله غيره ‏{‏سبحانه عمَّا يشركون‏}‏ تنزيهاً له عن شركهم‏.‏

‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم‏}‏ يخمدوا دين الإِسلام بتكذيبهم ‏{‏ويأبى الله إلاَّ أن يتم نوره‏}‏ إلاَّ أَنْ يُظهر دينه‏.‏

‏{‏هو الذي أرسل رسوله‏}‏ محمداً ‏{‏بالهدى‏}‏ بالقرآن ‏{‏ودين الحق‏}‏ الحنيفيَّة ‏{‏ليظهره على الدين كله‏}‏ ليعليَه على جميع الأديان‏.‏